الخميس، 2 يونيو 2011

أمراض ثقافية



تسود العديد من المجتمعات العربية - من ثار منها و من ينتظر- ظواهر سلوكية سلبية مقلقة كالعصبية، و التحزب، و غياب ثقافة الحوار، و ضيق الصدر عن النقد، و إعجاب كلٍ برأيه، و عدم تقبل الآخر، و الانشغال بالجدل عن العمل، و الالتهاء بالسفاسف عن العظائم ... و لم تقتصر هذه الصور السلبية على عوام المجتمع أو طبقته الدنيا، بل تسللت لوثاتها كذلك إلى نطاق عريض من المثقفين و النخب!

و أرى أن هذه الظواهر السلبية ما هي إلا إفرازات طبيعية لزمن ممتد من القهر و القمع و سلب الحريات عاشه الناس و تراكمت خلاله سموم لوثت المناخات الثقافية، و شوهت قيم المجتمع. 

و التشخيص السليم للمشكلة -باعتقادي- هو أنها مشكلة "ثقافية" مرضية ابتلي بها عموم المجتمع، و ليست مشكلة "فكرية" يختص بها تيار دون غيره. إذ لو أخطأنا التشخيص و اعتقدنا أن فريقاً دون غيره أو تياراً فكرياً بعينه هو المشكل لتمثلنا روح القاضي أو الجلاد و لانشغلنا بجلد ذلك الفريق و ذمه عن العلاج الحقيقي المطلوب.

أما النظر إلى المشكلة على أنها مرض ثقافي عام فيجعلنا نتمثل روح الطبيب المشفق أو المصلح الغيور٫ و هي عين الروح المطلوبة للعلاج.

أما العلاج فهو تربوي بالأساس، و ينبغي أن يسير في مسارين متكاملين:-

- أولاً: التربية الاستدراكية: و تهدف إلى وقف النزيف الثقافي، و إطفاء حريق القيم المشتعل، و ترميم ما يمكن ترميمه من ثقافات الجيل الحالي التي شوهتها الأيام السوداء، و نفض ما يمكن نفضه من غبار السلب الذي غطى على كثير من العقول. و هذا الاستدراك يحتاج إلى تضافر جهود جبارة جنودها قادة سياسيون و إعلاميون و دعاة و مربون، و منابرها صفحات الجرائد و شاشات التلفاز و مواقع الإنترنت و منابر المساجد و قاعات التدريس في المدارس و الجامعات و مقاهي الحواري و دواوين العائلات... إلخ.

- ثانياً: التربية البنائية: و هي التربية التي نعول عليها حقيقةً في صناعة المستقبل، فهي تستهدف النشء و تسعى إلى بناء جيل قادم على أسس سليمة و توفر البنية التحتية التعليمية و التربوية و الإعلامية اللازمة لهذا البناء. و هذه التربية تحتاج إلى جهود مبدعة يقودها خبراء علم التربية و جهابذة التعليم و التنمية البشرية و التخطيط الاستراتيجي، ليرسموا خطط مستقبلية  و يعدوا برامج و يقترحوا مشاريع ثم يدفعوا بها إلى الساسة و صناع القرار لاعتمادها و إنزالها إلى حيز التنفيذ.

و السير في هذين المسارين يتطلب التالي:

١- صناعة الأجواء: و هذه مهمة الرواد المؤثرين في المجتمع و القادرين على تحريكه و توجيه دفته، و مهتمهم تتلخص في صناعة جو نفسي عام متحمس للإصلاح الثقافي، و محفز إليه، و دافع نحوه. كما أن من مهمتهم كذلك إبراز قضايا محورية و حشد الجماهير من حولها و تعبئة المجتمع تجاهها، فالقضايا المحورية إذا ما كبرت في أعين الناس ارتقت بهم عن الانشغال بالسفاسف، و دفعتهم إلى العمل، و قطعت الطريق على مثيري النعرات و المتلذذين بالتحريش و ممتهني تفتيت الصف و شق العصا.

٢- إصلاح الإعلام: و دور الإعلام جوهري و أساسي في العلاج، فالإعلام المرئي و المسموع - المتلفز و المحوسب و المطبوع -  من أخطر وسائل التأثير و صناعة الرأي العام و توجيه المجتمع، فلابد أن يتحول الإعلام من منبر للتصارع تصرع فيه الأفكار بعضها إلى منبر للتقادح و التلاقح تقدح فيه الفكرة فكرةً أخرى و تتلاقح معها، و لابد أن يتحول تركيز الإعلام من تصيد السبقات الإخبارية إلى السبق نحو الإسهامات الثقافية و الحضارية و التنموية.

٣- الإيجابية و المبادرة: و هذه مهمة الجميع، فكلٌ منا على ثغر و يتحمل جزء من المسؤولية و الأمانة، و لا يمكن تحقيق الإصلاح إلا بنفرة جماعية للمجتمع يقودها المبادرون ووقودها الإيجابيون.