الخميس، 23 أغسطس 2012

هل يجيز الإسلام المعارضة السياسية للحاكم في ظل المرجعية الإسلامية؟



صعود التيارات السياسية ذات المرجعية الإسلامية إلى سدة الحكم في دول الثورات العربية يستلزم منا أن نفحص ما تمليه المرجعية الفكرية لهذه التيارات على أصحابها من توجهات سياسية ستنعكس حتماً على ممارستهم السياسية و من ثم على واقع المجتمعات التي يحكموها، و سأتوقف اليوم عند حق المعارضة السياسية  للحاكم في ظل المرجعية الإسلامية.

هناك عاملان أساسيان يجعلان هذا الموضوع غايةً في الأهمية في هذه المرحلة، و هما اللذان دفعاني للكتابة حول هذه المسألة:

* العامل الأول يتمثل في حقيقة أن قمع المعارضة السياسية، و إغلاق كل الأبواب في وجهها، و ملاحقتها و التنكيل بها من قبل الحكام المستبدين كان أحد أهم الأسباب التي حركت الشعوب و دفعتها إلى الميادين و أثارتها على الحكام. و هذا يجعلنا في حاجة إلى أن نطمئن أن الواقع الجديد الذي أنشأته الثورات و أتى بالتيارات الإسلامية إلى الحكم لن يكرر آلام الماضي. و تتضاعف الحاجة إلى هذه الطمأنة في ظل شيوع الكثير من الشبهات و التشويهات و التشنيعات التي خلقت هواجس لدى شريحة غير قليلة من الناس جعلتهم يتخوفون على الحريات بشكل عام و على الحريات السياسية منها بالأخص في ظل حكم يستند إلى مرجعية إسلامية.

* العامل الثاني هو ما نشهده من حالة التباس أو خلط بين العديد من المفاهيم المتناثرة كطاعة و لي الأمر في المنشط و المكره و تحريم الخروج على الحاكم و أشباهها من المسائل التي يتم تناولها عادةً تناولاً مجتزءاً ينتج عنه فهماً قاصراً أو خاطئاً بالكلية للحقوق السياسية للأفراد و الجماعات التي أقرها الإسلام و مارسها المسلمون على تعاقب أجيالهم و دولهم. هذا الفهم الخاطئ ليس مقصوراً على الفئات الغير مؤدلجة في الشعوب العربية و لا على التيارات التي تتبنى مرجعيات أخرى، و إنما قد تجده كذلك في داخل التيارات الإسلامية نفسها!

خلاصة ما وصلت إليه من بحث و مطالعة في المسألة هي أن الإسلام ينظر إلى المعارضة السياسية للحاكم على أنها ضرورة لازمة، بل واجب شرعي على المستويين الجماعي (فرض الكفاية) و على المستوى الفردي (فرض العين). و قد وجدت أن هذه الضرورة و هذا الإيجاب راسخان و جليان في الطرح النظري (النصوص الشرعية و شروحها) و في الممارسة العملية للمسلمين في دولهم المتعاقبة، بل و في أفكار الكثير من المجددين الإسلاميين المعاصرين من أفراد و جماعات.

* المعارضة السياسية في نصوص الشريعة الإسلامية

أما نظرياً: فهذا قول الله عز و جل في سورة البقرة (آية 251):"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين" و قوله جل في علاه في سورة الحج (آية 40): "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز".  انظر كيف جعل الله تدافع الناس حماية للأرض من الفساد و حماية للدين نفسه مرموزاً لذلك بأماكن العبادة، بل جعله من موجبات نصرة الله القوي العزيز! و المعارضة السياسية ما هي إلا شكل من أشكال التدافع الذي ذهبت إليه الآية.

و رغم أن التفسير الدارج لهذه الآية هو أن الله يدفع أذى المشركين بجهاد المسلمين لهم، إلا أنني وجدت في تفسير الطبري ما يؤيد ما ذهبت إليه من اتساع المعنى المقصود في الآية ليشمل معارضة الناس لبعضهم البعض في شئون الدين و الدنيا، إذ يقول بعد أن استعرض الأقوال المختلفة في تفسير الآية: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله -تعالى ذِكرُه- أخبر أنه لولا دفاعه الناس بعضهم ببعض، لهُدِم ما ذَكر (...) ومنه كفه ببعضهم التظالم، كالسلطان الذي كف به رعيته عن التظالم بينهم، ومنه كفه لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق، ونحو ذلك. وكل ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض ، لولا ذلك لتظالموا ، فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيعهم وما سمى جل ثناؤه. ولم يضع الله تعالى دلالة في عقل على أنه عنى من ذلك بعضا دون بعض، ولا جاء بأن ذلك كذلك خبر يجب التسليم له، فذلك على الظاهر والعموم على ما قد بينته قبل لعموم ظاهر ذلك جميع ما ذكرنا."  

و في السنة النبوية أحاديث كثيرة لا تجيز معارضة الحاكم فحسب بل تجعلها ممارسة مندوبة بل واجبة كلما دعت الحاجة. و من هذه الأحاديث ما رواه مسلم من حديث تميم الداري أنه صلى الله عليه و سلم قال: ((الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))  و النصيحة في اللغة معناها: تخليص الشيء من شوائبه، و عليه فقد جعل الرسول صلى الله عليه و سلم سعي المسلمين إلى تنزيه الحاكم بتخليصه مما يشوبه و ما يرتكبه من أخطاء من أساسات الدين و ليس فقط من مصلحات الدنيا!

و من الأحاديث كذلك ما رواه أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو: ((إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منهم))، و منها كذلك ما رواه أبو داوود من حديث أبي بكر: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)) .

المعارضة السياسية في الممارسة العملية للمسلمين:

أما عملياً فالأمثلة التي مررت بها خلال مطالعتي لا مجال لحصرها هنا و إلا لطال بنا المقام، و لكن على عجالة:

  • فإنك تجد نموذج للمعارضة السياسية في إقرار الني صلى الله عليه و سلم مراجعة الصحابة له في اختياراته السياسية و نزوله عند آرائهم فيما لم ينزل به وحي، كتغيير موقع نزول الجيش يوم البدر نزولاً عند رأي الحباب الذي اعترض على الموقع الأول الذي اختاره صلى الله عليه و سلم.
  • و تجدها في خروج النبي صلى الله عليه و سلم لملاقاة المشركين خارج المدينة نزولاً عند رأي الشباب خلافاً لما كان يفضله رسول الله صلى الله عليه و سلم.
  • و تجدها في إقرار النبي صلى الله عليه و سلم لمعارضة الصحابة لخالد بن الوليد الذي كان أميراً عليهم في إحدى السرايا و خالفوه في اجتهاده بعد المعركة.
  • و تجدها صريحة في خطبة أبي بكر التي افتتح بها حكمه و جعل فيها المعارضة السياسية ليس فقط حق متاح للرعية بل واجب تقوم به خيرية الرعية على سبيل القصر و الحصر: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، و لا خير فينا إن لم نسمعها" ... "إن أحسنت فأعينوني، و إن أسأت فقوموني".
  • و تجدها في قول عمر: "أيها الناس، من رأى منكم في اعوجاجاً فليقومني" فقال له رجل: "والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا"  فقال عمر: "الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بحد سيفه"!
  • و تجدها في معارضة عمر لموقف أبي بكر من مانعي الزكاة أول الأمر.
  • و تجدها في موقف عمر من جمهرة من الصحابة اعترضوا على قراره بجعل البلاد المفتوحة أرض وقف و عدم تقسيمها غنائم و كان بينهم بلال و معاذ، فظل عاماً كاملاً يناقشهم في المسألة و لم يفرض عليهم رأيه و لم يزد على أن قال:  "اللهم اكفني بلالا وأصحاب بلال"!
  • و تجدها في عدم انكار الخليفة عثمان لفعل أبي ذر على الرغم من اختلافه معه في اجتهاده، عندما نزل أبو ذر معتصماً في شوارع دمشق محتجاً على رأي معاوية والي الشام في مسألة و مخالفاً له في منهجه فيها.
  • و تجدها في موقف أبي سعيد الخدري الصحابي الجليل لما وقف للخليفة مروان ابن الحكم و قاطعه عن خطبة العيد و أنكر عليه تقديمه الخطبة على الصلاة لأهداف سياسية خلافاً لسنة النبي صلى الله عليه و سلم.
  • و تجدها في معارضة الحسين و من معه ليزيد بن معاوية.
  • و تجدها في معارضة الإمام أحمد بن حنبل و أحمد بن نصر الخزاعي لثلاثة خلفاء متعاقبين: المأمون و المعتصم و الواثق.
  • و غيرها العشرات بل المئات من الأمثلة.

المعارضة السياسية في الفكر و الممارسة الإسلامية المعاصرين:

كذلك تجد فيما كتبه مجتهدون إسلاميون معاصرون ما يبني على المعنى السلفي الأصيل القديم و يؤكد على ضرورة مزاولة ما دأب عليه أجيال الصحابة من معارضة للحاكم و تقويمه حين يخطئ. و المؤلفات الفكرية الإسلامية الحديثة التي تناولت مسألة المعارضة السياسية  كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر: "من فقه الدولة في الإسلام" للقرضاوي في فصل تعدد الأحزاب في الدولة الإسلامية، و "أصول المعارضة السياسية في الإسلام" لعبود العسكري، و "السياسية الشرعية: مدخل إلى تجديد الخطاب الإسلامي" لعبد الله الكيلاني الصادر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي،  و "الفكر السياسي عند ابن تيمية" لبسام فرج  في الباب الثالث من الكتاب المتعلق بالعقد السياسي، و غيرها الكثير.

و كإطلالة سريعة على ما ورد في هذه الانتاجات الفكرية دعونا نتوقف مع ما كتبه القرضاوي الذي بنى على فقه الأوائل ما يناسب روح العصر فجعل التعددية السياسية في صورة أحزاب سياسية في ظل الحكم الإسلامي مسألة واجبة شرعاً من باب أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يقول:  

"و قد استطاعت البشرية في عصرنا بعد صراع مرير و كفاح طويل أن تصل إلى صيغة للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و تقويم عوج السلطان، دون إراقة للدماء، و تلك هي وجود "قوى سياسية" لا تقدر السلطة الحاكمة على القضاء عليها بسهولة، وهي ما يطلق عليها: "الأحزاب". 
(...)
فإذا أردنا أن يكون لفريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر معناها و قوتها و أثرها في عصرنا فلا يكفي أن تظل فريضة فردية محدودة الأثر (...)

إن تكوين هذه الأحزاب أو الجماعات السياسية، أصبحت وسيلة لازمة (...) و هي التي يمكن بها الاحتساب على الحكومة و القيام بواجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" 

و كلامه في كتاب "من فقه الدولة في الإسلام" حول هذه المسألة رائع و عميق وودت لو تمكنت من نقله كله هنا لولا ضيق المقام.

أما في الممارسة فالراصد لحركة المعارضة في العالم العربي سيجد أن التيارات الإسلامية قد تقدمت صفوفها و ثبتت في مواجهة امتحانات المستبدين لهم، و لا يوجد سبب يجعل هذه التيارات التي مارست المعارضة عشرات السنوات تنقلب على ما مارسته و ترفضه عند وصولها للسلطة، كما أننا لم نر أي مؤشر يجعلنا نقلق أو نضطرب بل إن الغالبية العظمى من المؤشرات السابقة و الراهنة تسير في اتجاه الطمأنة التي لا تغنى عن ضرورة الحذر و أداء واجب التدافع الذي يدفع الفساد دفعاً.

هل المعارضة السياسية الحزبية المنظمة المتعددة تتعارض مع وجوب وحدة صف المسلمين؟

لا تعارض إذا كانت التعددية السياسية هي تعددية تنوع في البرامج و السياسيات و آليات العمل أو حتى الأولويات، و هذا هو مفهوم المعارضة الذي يقبله الإسلام، أما ما يتجاوز ذلك فهو أساساً يخرج عن حدود المعارضة البناءة إلى التناحر على السلطة على حساب المبادئ و هو سلوك منبوذ ترفضه النفوس السوية و المنطق المعتدل.

هل المعارضة السياسية تتنافى مع طاعة ولي الأمر الواجبة بنصوص الشرع؟

لا تعارض، فالله عز و جل الذي أوجب الطاعة للحاكم جعلها طاعة مشروطة لا مطلقة، و لم يطالب الله المسلمين بطاعة أميرهم بدون مناقشته، بل على العكس أوجب عليهم نصحه و أمره بالمعروف و نهيه عن المنكر، و فرض على الحاكم في المقابل واجب الشورى. فإن أهمل الحاكم واجب الشورى فقد ارتكب معصية قد تسوغ عدم الطاعة عند احتمال وقوع أي مفسدة.

هذا بالإضافة إلى الأدلة النقلية و العملية التي أوردتها من نصوص الوحيين و فعل السلف الصالح التي مارسوا فيها المعارضة و الطاعة معاً دون تعارض.

استدراك لازم

الممارسة السياسية الغربية الحديثة على الرغم مما فيها من فوائد وجب علينا الاستفادة منها و اقتباسها و الترحيب بها، إلا أنها لا يجب أن تكون بكليتها بحلوها و مرها مرجعية لممارساتنا السياسية، فعلى سبيل المثال إذا كان مقبولاً في الغرب ممارسة التتنابز و التلامز بين الأحزاب السياسية و استعمال النميمة السياسية و التجريح و الإهانات للأشخاص و الهيئات كأحد معالم الحرية السياسية و أدوات المعارضة السياسية و التعبير عن الرأي المخالف، فليس بالضرورة أن ننقل هذا السلوك المتخاصم مع الأخلاق في كثير من أشكاله إلى مجتمعاتنا و نمارسه و كأنه ظاهرة صحية فقط لأن الغرب يفعله.

المعارضة السياسية في الإسلام هي معارضة "النصيحة" و "بالتي هي أحسن" و "بالموعظة الحسنة"، و لا تعارض بين القوة و الصلابة في الحق و بين التزام الأخلاق، و التأثير الإيجابي للمعارضة ذات النوايا السليمة لا يتناسب طردياً مع ارتفاع الصوت و لا مع نسبة الشتائم أو التجريحات في الكلام.

و بالله التوفيق

الأربعاء، 15 أغسطس 2012

لماذا يفوز الإسلاميون في الانتخابات؟



عكفت في اليومين الماضيين على مطالعة مجموعة من المقالات و الدراسات و التحليلات و اللقاءات التلفزيونية لعدد من النخب الليبرالية و اليسارية و العلمانية  التي تحدثوا فيها عن رؤيتهم لصعود التيارات الإسلامية في الانتخابات البرلمانية و الرئاسية في دول الربيع العربي، و تفسيرهم لهذا الصعود و الأسباب التي تقف وراءه.

اهتمامي بالموضوع نابع أساساً من أنه على الرغم من سعادتي بصعود التيارات الإسلامية و تصدرها لساحات العمل السياسي في العالم العربي، إلا أنني أؤمن إيماناً تامًا بأن أحد أهم المقومات التي يلزم توفرها لنجاح  أي تيار يصل إلى الحكم هو وجود معارضة سياسية حقيقية قوية فاعلة  قادرة على إحداث حالة توازن سياسي و خلق بيئة تنافسية محفزة على الإبداع، و تحقيق سنة التدافع بين الناس التي جعلها الله عز و جل وقاية للأرض من الفساد: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ ) (البقرة: الآية 251 ) 

أردت من خلال مطالعتي أن أعرف كيف تقرأ هذه النخب صعود الإسلاميين في مقابل فشلهم هم في نيل ثقة الشارع و في تحقيق نتائج مؤثرة في الانتخابات،  هل هم يعرفون حقاً الأسباب الحقيقية و الكاملة  وراء ذلك، و هل هم يحاولون إعادة ترتيب أوراقهم و تصويب خططهم و برامجهم في ضوء هذه المعرفة، أم أنهم أخطأوا التفسير و التقدير بطريقة ستؤدي بهم حتماً إلى فشل جديد؟

نتيجة اطلاعي جاءت مخيبة للآمال، إذ يبدو أن النخب الليبرالية و اليسارية في معظمها تسيطر عليها إحدى حالتين: إما أنها لا تعرف الحقيقة و غارقة في أوهام تفسيرات خاطئة، و إما أنها تعرف الحقيقة و لكنها لم تمتلك بعد الجرأة الأدبية الكافية لتعترف بها و لتتصرف في ضوء هذا الإعتراف فتصوب مسارها.

مازالت الكثير من النخب تعزو تفوق الإسلاميين إلى حالة المجتمع التي يفترضون أنها تشهد تفشي الجهل و الفقر بين الناس،  و نجاح الإسلاميين في استغلال هذه الظروف لتسويق شعارات رنانة فارغة من المضمون و الفكر، و في اللعب على أوتار العواطف الدينية للمجتمع و استغلال تدين الناس لتمرير أفكار رجعية و تحقيق مكاسب سياسية، و في استغلال فقر الناس و عوزهم من خلال تقديم رشاوى انتخابية في صورة معونات غذائية و زيت و سكر و طحين. هذا هو التفسير الذي تقدمه هذه النخب.

يقول أحدهم في مقال بعنوان "لماذا يفوز الإسلاميون؟" : "من بين الأسباب المهمة التى قادت إلى تسيد الإسلاميين المشهد الانتخابى العربى الراهن ، استغلالهم السيئ للعاطفة الدينية لدى شعوب المنطقة".

ويقول آخر: "هؤلاء هم من يصوتون للإسلاميين: البواب ..... و المُهرب."

أما  الكاتب الساخر جلال عامر -رحمه الله-  فيري  (كما عبر في أحد اللقاءات التلفزيونية) بأن الناس أقبلت على التيار الإسلامي و عزفت عن التيارات الليبرالية لأن الإنسان حتى يصبح ليبرالياً يحتاج إلى قراءة ألف كتاب!  و لكن حتى يصبح إسلامياً فلا يحتاج أكثر من مقاطعة الحلاق لمدة أسبوع (أي ليطلق لحيته)!

و هناك العشرات من الاقتباسات التي يمكن إيرادها تدور كلها حول معاني تزدري المجتمع و تصمه بالجهل من جهة، و تتهم التيارات الإسلامية بخداع الناس بشعارات فارغة من جهة أخرى.

و أريد من خلال هذا المقال أن أعرض ما أعتقد أنها الأسباب الحقيقية لصعود التيار الإسلامي علها تساعد التيارات المنافسة على معرفة السر و إدراك الحقيقة بعيداً عن خداع النفس أو التفكير التبريري.

لو نظرت إلى الثلاثين سنة الماضية ستجد أن الإسلاميين قد قدموا إسهامات حقيقية عملية في الكثير من الميادين و ليس مجرد شعارات كما يظن الليبرالييون:

  1. في مجال مقاومة الاحتلال و السعي نحو التحرر من الاستعمار ستجد أن الإسلامين قد تصدروا قوى المقاومة في كل بقعة عربية أو إسلامية تعرضت  للاحتلال او الاغتصاب، و قدموا نماذج بطولية مشهود لها بالبسالة و التضحية و الفداء، و الأمثلة على ذلك معروفة و أشهر من أن أذكر القارئ بها.
  2. و في مجال المعارضة السياسية، ستجد أن أقوى الأحزاب السياسية المعارضة طيلة السنوات الماضية التي عاشتها المنطقة في ظل الحكام المستبدين هي أحزاب إسلامية و ذلك في كل الدول العربية بلا استثناء بما في ذلك دول الخليج الغنية (و ما أخبار تيار الإصلاح في الإمارات و ما يتعرض له من تنكيل هذه الايام عنا ببعيد)،   و قد دفع الإسلاميون ثمن هذه المعارضة السياسية من أرواحهم و أموالهم و سني عمرهم في المعتقلات و غرف التحقيق و زنازين العزل الانفرادي.
  3. و في مجال العمل الخيري و الإغاثي تجد أن المؤسسات الإغاثية و الخيرية الإسلامية هي أكبر من يعمل بجد و دأب و تفاني لتقديم الخدمات الإغاثية و الإنسانية للمحتاجين في كل مناطق العالم العربي و الإسلامي، سواءً كان ذلك في صورة مساعدات غذائية أو حفر آبار مياه أو كفالة أيتام أو التكفل بعلاج مرضى أو تنفيذ مشاريع تشغيلية أو بناء مستوصفات خيرية أو توزيع أدوية مجانية، و يكفي أن أذكر أسماء مؤسسات مثل "الإغاثة الإسلامية" و "الندوة العالمية للشباب الإسلامي" و "حملة ائتلاف الخير"  كأمثلة  من بين مئات المؤسسات الإسلامية الأخرى العاملة في المجال الإغاثي و الخيري و التي تعدى عملها ليصل إلى غير العرب و غير المسلمين في مجاعات أفريقيا و كوارث هايتي و غيرها من المناطق في العالم. و أدعو القارئ إلى زيارة مواقع هذه المؤسسات و مطالعة تقاريرها التي تحتوي على ألوف بل عشرات ألوف المشاريع التي انجزتها حول العالم خلال السنوات الماضية.
  4. و في مجال العمل التربوي و الوعظي ستجد أن الوعاظ و المربيين و الدعاة الإسلاميين قد تفوقوا على من سواهم في هذا المضمار من حيث الكم و الكيف، و يكفي للدلالة على ذلك أن أضرب مثالاً بموقع "طريق الإسلام" الذي يحتوي قرابة 100,000 مادة صوتية سجلت إما في محاضرة أو ندوة أو دورة  في 28 موضوع رئيسي و قرابة 100 موضوع فرعي تناولت كافة شئون الدين و الدنيا من علوم شرعية و قضايا اجتماعية و موضوعات ثقافية و مستجدات سياسية و أفكار إدارية و مقترحات تنموية و غيرها، و قد تم تحميل  هذه المواد و الاستماع إليها عبر هذا الموقع أكثر من نصف مليار مرة!  و هذا مجرد مثال لموقع الكتروني واحد من بين مئات المواقع الشبيهة.  أمثلة أخرى ممكن مشاهدتها في نجاح مبادرات إعلامية إسلامية تربوية كقناة إقرأ و الرسالة و مجموعة قنوات المجد و طيور الجنة و كراميش و القدس و الحوار و فور شباب و غيرها من القنوات الإعلامية التي نجحت في استقطاب كم كبير من المشاهدين من مختلف الأعمار و المستويات و ساهمت في تثقيفهم و تربيتهم و التأثير الإيجابي فيهم.
  5. و في مجال الفكر تجد أن المكتبة العربية تزخر بكم ضخم من المؤلفات الإسلامية المعاصرة تقدر بعشرات الآلاف ليس فقط في مجال العلوم الشرعية بل حتى في علوم التربية و الأدب و الإدارة و التنمية و أنظمة الحكم و العلوم السياسية و حتى العلوم التطبيقية!  انظر مثلاً إلى المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي صدر عنه أكثر من 300 كتاب فكري رصين باللغة العربية خلال ال 30 سنة الماضية أي بمعدل 10 كتب في السنة، هذا بالإضافة إلى أكثر من 400 كتاب أخرى أصدرها المعهد  ب 22 لغة أخرى غير العربية، يضاف إلى هذا  مئات الأبحاث و المقالات و الدوريات الصادرة عن المعهد. و انظر مثلاً إلى مركز الإبداع التربوي الذي أسسه علي الحمادي من رموز الإسلاميين الإصلاحيين في الإمارات، و الذي صدر عنه ما يقارب ال 200 كتاب في مجالات إدارية و تنموية و مهارية موزعة على قرابة 35 سلسلة كلها تتناول الموضوعات الإدارية و التنموية بروح إسلامية واضحة، و انظر مثلاً إلى المفكر الإسلامي عبد الكريم بكار الذي كتب ما يقارب ال 40 كتاباً حول فكر النهضة و التغيير و التنمية، و غيره الكثير أمثال الدكتور يوسف القرضاوي صاحب سلسلة ترشيد الصحوة، و محمد الراشد صاحب سلسلة استراتيجيات الحركة الحيوية، و جاسم سلطان و رسائله التي وصلت 250 رسالة حول مشروعه الفكري مشروع النهضة، و سلمان العودة مشرف موقع مفكرة الإسلام، و طارق سويدان و كتاباته و حلقاته التلفزيونية في الإدارة و القيادة و فنون التغيير، و أحمد الشقيري و سلسلة برامجه التلفزيونية (خواطر و لو كان بيننا و غيرها)  التي وصلت إلى 300 حلقة هادفة في 10 مواسم، و غيرهم الكثير!
  6. و في مجال التنمية تجد أن الإسلاميين قدموا الكثير من المبادرات التنموية العملية الناجحة، منها على سبيل المثال مبادرة عمرو خالد و مشروع صناع الحياة القائم على فلسفة التنمية بالإيمان، و "مشروع النهضة" الخليجي الذي قاده جاسم سلطان من قطر و تحول إلى تيار تنموي قوي صادح، و مبادرة طارق سويدان و مشروع اكاديمية إعداد القادة التي خرجت مئات الشباب القيادي في العالم العربي، و غيرها الكثير من المبادرات.
  7. في مجال رعاية شئون الجاليات العربية و الإسلامية في الغرب تجد المؤسسات الإسلامية و المراكز الإسلامية تتصدر العمل الدعوي و العمل الاجتماعي و العمل التربوي و التعليمي و الثقافي و العمل الحقوقي و العمل التنموي المتخصص بشئون الجاليات في الغرب، و في التفاعل مع هموم العرب و المسلمين في كل مكان،  و هذا أمر يلحظه بوضوح و جلاء كل من يعيش في الغرب.

 هذه مجرد أمثلة من بين مجالات كثيرة اقتحمها الإسلاميون و عملوا فيها  بتجرد و إخلاص و فناء لسنوات طويلة دون كلل أو ملل، ووفق منهجية محكمة و خطط مدروسة و عمل جماعي منظم، و لم يكن يحركهم طوال ذلك الوقت سوى الإيمان التام و الراسخ بأفكارهم و ليس بنية الاستعراض الهادف إلى تحقيق مكاسب سياسية تلوح في الأفق، بدليل أنهم عملوا لعشرات السنوات في ظل أفق سياسي مسدود و ظروف ضاغطة و تحت التهديد و الملاحقة الأمنية.

و كل هذا العطاء كان يجري أمام الناس و على مرأى منهم و مسمع، و يعرفون القائمين عليه، و يتأثرون بهم،  و يتفاعلون معهم،  و يثقون بهم لما رأوا من تفانيهم و بذلهم.

من أراد أن يخدع نفسه و أن يختزل كل هذه التضحيات و العطاءات التي قدمها الإسلامييون  في فرية الزيت و السكرو الطحين  أو في أوهام دغدغة عواطف الناس بشعارات رنانة فله ذلك، و له كذلك أن يجرب أن يعرض على الناس زيت و سكر و يخطب فيهم بالخطب النارية العصماء ثم يرى النتيجة! و ليكتشف حينها حقيقة الأوهام التي أغرق نفسه و من حوله فيها!

و عليه أن لا ينسى أن الناس كما يرون نجاحات الإسلامين و بذلهم فهم يرون كذلك فشل  من تحدث باسم الاشتراكية و العدالة الاجتماعية و يعرفون أخبار استبدادهم في عراق صدام و ليبيا القذافي و سوريا الأسد الأب و الابن.   و يشهدون فشل و فساد و استبداد من لبسوا عباءة الليبرالية كهارب تونس و طاغية مصر و غيرهم.

نحن نطالب كل من يريد أن ينافس الإسلاميين أن يكون على قدر المسؤولية و أن يعرف أنه مطالب ليس فقط بإثبات أنه لن يكرر آلام العراق و سوريا و ليبيا إن كان اشتراكياً، ولا آلام مصر و تونس إن كان ليبرالياً، بل عليه كذلك أن يقتحم ميادين البذل و العطاء بتجرد  و إخلاص و تفاني و صدق. و عليه قبل ذلك و بعده أن يتواضع و أن يتهم نفسه بالفشل بدلاً من الغرق في بحور الأوهام و اتهام الناس بالجهل.