السبت، 24 يونيو 2017

عملتني الحياة (20) -  أصعب درس


علمتني الحياة أن لا أوثق إلا من ثبتت ثقته يقيناً و رأيته بعيني رأسي يجتاز امتحانات التجارب !!!

ليس معنى هذا أن الناس في نظري مجروحين حتى تثبت ثقتهم ... بل كل الناس عندي أهل للاحترام و التقدير و الحب و الود الكامل بلا أدنى تردد عندي في بذل المعروف لهم ... و لكن إذا حانت لحظة الحاجة إلى استحضار الثقة ... فلن أوثق إلا الثقة!

فكم سمعت أشخاصاً يتحدثون عن القيم و المبادئ و المعاني السامية ... ثم لما لاحت مصلحة رأيتهم بأم عيني و هم يدوسون كل شيء و يهرسونه هرساً في أول خطوة من خطوات هرولتهم وراء مصالحهم ...

و كم شخص أنيق الهندام .. معسول اللسان .. منظوم الكلام ... سمعته يتحدث بطلاقة و بلاغة و استرسال عن معاني الكرامة الإنسانية و روعة الحرية ووجوب الاحتكام إلى الديموقراطية ... و إذ فجأة رأيته هو نفسه يخلع القناع و يكشر الأنياب ... ثم يشرح بنفس الطلاقة مبررات الرضا بالديكتاتورية ... و يفصل بنفس البلاغة الظروف التي تستدعي سحق الكرامة و طمس الهوية ... و يسترسل كثيراً بإسهاب و إطناب في تبيان الأضرار المحتملة للحرية. و آخر أنيق مثله إلا أنه لم يتحدث بالشر و لكنه صمت عن الصواب و سكت كأنه أخرس بلا لسان أو كأنه من سكان كوكب المريخ بعد أن كان في أيام الراحة لا يجف له حلق و فتاويه الجاهزة و تعليقاته المطولة لا تفوتها مسألة.

و كم شخص لما سمعت كلامه عن الشجاعة و الإقدام و استعداده التام لإحباط الإحباط ظننت أنه شجاع و مقدام و أنه سيحبط الإحباط فعلاً... فلما حان وقت المواجهة اختفى كأنه نقطة ماء تبخرت في ساعة ضحى ... أو تحول إلى الأب الروحي للعقلانية و الواقعية، أو المجتهد المتفرغ في تفصيل و تفصيص فقه الاحتياط، أو أفلاطون الزمان في شرح دواعي الهدوء و ضرورة التروي و وجوب الأناة و الاتزان ...

و كم شخص أبهرني بعلمه الغزير... و أسرني باطلاعه الواسع ... حتى ظننت أنه هو عنوان التغيير و بوابة الأمل! ... ثم لما دارت الأيام رأته عيناي و سمعته أذناي و هو يشرح بأسلوب علمي رصين الأسباب العلمية التي تجعل انتهاك حقوقي ضرورة تاريخية و ظاهرة فيزيائية حتمية و نتيجة طبيعية لكل التفاعلات الكيميائية التي جرت و تجري و سوف تجري على ظهر الكرة الأرضية!
و كم شخص أقنعني انه زاهد ... و حلف أمامي كثيراً حتى صدقت أنه صادق ... و سمعته مراراً ينتقد الفساد و يلعن الإفساد و يسب المتلاعبين بمصائر البشر و يشرح صفات الصلاح و نظريات الإصلاح ... فلما مكنه الله من مصير خمس أشخاص فقط انقلب فجأة إلى أجشع و أطمع و أكذب و أفسد و أطغى من راته عيني ...

و كم و كم و كم ... هذا أصعب درس علمتني إياه الحياة!