الجمعة، 7 سبتمبر 2012

حالة التململ الفلسطيني: مظاهر، أسباب، و مقدمات للحل



لا يستطيع أي مراقب للساحة الفلسطينية أن ينكر أن هذه الساحة تشهد مؤخراً حالة من التململ الشعبي. تتجلى معالم هذا التململ في عبارات التذمر و عدم الرضا التي ملأت الفضاء الإلكتروني و التي تناقلتها الألسن في التجمعات العائلية و دردشات الأصدقاء و أحاديث الحواري، هذا إلى جانب ما بدأ الشارع يشهده فعلاً من بعض صور الاحتجاج الميداني. 

هذه الحالة تستدعي من الجميع التحرك السريع و الفوري للتفاعل معها و استباق أي أضرار ممكن أن تنتج عن سوء تقدير للحالة أو سوء إدارة لها. 

و أول ما يلزمنا فعله هو إدراك أبعاد الموضوع إدراكاً تاماً حتى تكون ردات أفعالنا و طريقة تفاعلنا قائمة على بينة و بصيرة و وضوح رؤية، و حتى ننأى بأنفسنا عن العشوائية و التخبط في القرارات، أو الإقدام على أفعال أو ردات أفعال متهورة تضر أكثر مما تنفع.

و كمساهمة مني في إلقاء بعض الضوء على المشهد الفلسطيني الحالي سأحاول أن أطرح مجموعة من النقاط التي أرى أنها تمثل مظاهر أو أسباب للحالة أو خطوات تقربنا من الحل.

أما مظاهر حالة التململ  كما لمستها من خلال مراقبتي فهي:
  1. أنها حقيقية و تلقائية،  فالتجارب السابقة قد تدفع البعض إلى الاعتقاد بأن ما يجري هو تكرار لحراكات سابقة كانت مفتعلة أكثر منها صادقة، و ناتجة عن تعبئة و تحريض أكثر منها عن قناعة و تلقائية.  الحالة الحالية على خلاف أغلب ما سبق هي حالة تململ حقيقية شعبية صرفة، ليست مصطنعة و لا موجهة و لا معبأة.
  2. أنها تجاوزت الحدود الفصائيلة و تخطتها،  فعلى خلاف ما كنا نراه سابقاً من حالات تذمر فئوية أو حزبية كنوع من النكاية و الكيد بالفصيل المخالف الموجود في الحكم، فإن ما نشهده اليوم قد تجاوز هذه الحالة، و بدأنا نسمع التذمر من جميع الأطراف تجاه جميع الأطراف بما في ذلك من هم بعيدون عن التحزبات و العصبيات من عموم الناس.
  3. أنها تخطت حواجز الجغرافيا،  فهي ليست خاصة بغزة دون الضفة او الضفة دون غزة، أو بمحافظة دون أخرى، أو بمدينة دون أخرى. عبارات تذمر متشابهة و شكاوى متطابقة تسمعها في كل المدن، بل إن بعض أخبار هذا التذمر وصلت إلى التجمعات الفلسطينية في الشتات و بدأ البعض هناك يرددها و يتفاعل معها.
  4. أنها حالة تململ، و قد حاولت أن أكون دقيقاً في اختيار هذه الكلمة -تململ- للتعبير عن الحالة الشعبية الحالية، إذ أنني لا أريد أن أبالغ أو أهول أو أضخم الأمر أو أن أحمله فوق ما يحتمل،  فهي ليست حراكاً و لا انتفاضة و لا ثورة حتى الآن، و لكن التململ هو الخطوة الأولى التي تسبق الحراك الذي بدوره يتصاعد حتى يصل إلى ثورة أو انتفاضة إذا لم يستدرك.
  5. أنها متصاعدة، إذ أستطيع أن أقول من خلال مراقبتي أن أصوات النقد و الاعتراض ليست في معدل أو منحنى طبيعي كتلك التي تشهدها كل دول العالم من النوع الذي يأتي و يذهب و يتصاعد و ينخفض بحسب الظروف و التقلبات. هي حالة متصاعدة مثل كرة الثلج،  قد تختلف سرعة دوران هذه الكرة فتسرع أحياناً و تبطئ أحياناً أخرى و لكنها مستمرة في حركتها التصاعدية التراكمية بلا توقف.

هذه المظاهر يجب أن تدق نواقيس خطر، و يجب أن يستوعبها من هم في مواقع المسؤولية، و أن يناقشوها في اجتماعاتهم بجدية و اهتمام و من خلال دراسة متأنية مستفيضة، و أن لا يقعوا في خطأ التقليل من شأنها أو التعامل معها بنوع من المكابرة أو العناد أو العشوائية.

و أهم ما يجب أن يكون مطروحاً على طاولة النقاش هو بحث الأسباب الرئيسية التي وصلت بنا إلى هذا الوضع. 

قد يقول قائل أن تردي الأوضاع الاقتصادية، و زيادة معدلات البطالة، و نقص الموارد، و الغلاء، و حالة الحصار و ما شابه ذلك من قضايا  هي الدافع الأساسي للتذمر.

لا أستطيع أن أنكر أن هذه الأمور كلها هي من العوامل المساعدة على التذمر، و لكنها ليست الأسباب الرئيسية من وجهة نظري، و دليلي في ذلك أن الشعب الفلسطيني طوال تاريخه الحديث يعيش في حالة شبيهة بما نحن عليه الآن من شظف عيش بل ربما أصعب و أقسى تخللتها نكبة و نكسة و هجرتين و أربعة حروب و انتفاضتين، و مع ذلك لم يتذمر الناس و لم يضيقوا بأنفسهم و بمن يقودونهم ذرعاً، بل على العكس لم تزدهم المعاناة إلا صموداً و إصراراً و ثباتاً و تماسكاً.

و عليه فلا أظن أن هذه العوامل الاقتصادية هي الباعث الأساسي على التذمر. أعتقد أن المحركات الأساسية لحالة التململ يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

  1. انسداد الأفق،  بل انسداد الآفاق كلها، و أعني هنا آفاق الحل للقضية الفلسطينية، فطريق العمل السياسي المتمثل في المفاوضات و العمل الدبلوماسي وصل إلى طريق مسدود و موت نهائي و يأس تام من العودة إلى الحياة، و طريق المقاومة كذلك وصل هو الآخر إلى طريق مسدود  أو على الأقل دخل في حالة من ضبابية الأفق.  و بالتالي أصبح المواطن يعاني و يضحي و يدفع الأثمان الغالية في كلا شقي الوطن دون أن يعرف بالضبط إلى أين هو ذاهب،   و لا يعرف مقابل ماذا بالتحديد هو يدفع الثمن الغالي، و أي أفق بالضبط عليه ان يستطلع و يراقب ليعرف مدى قربه أو بعده من أهدافه و طموحاته.  هذه الحالة من ضبابية الرؤية و انسداد الأفق غير مسبوقة في التاريخ الفلسطيني، و لا شك عندي  أن لها انعكاسات نفسية ضخمة على الناس قللت من قدرتهم على التحمل و الصبر و الاصطفاف خلف القيادات التي تدير القضية و توجه الدفة، و كما قيل (ليس للحياة قيمة إذا لم يكن فيها شيء نناضل من أجله)  و هذا هو الشعور الذي تسلل لنفوس الناس مع مرور الأيام للأسف. أقصد أن غياب آفاق النضال قلل قمية الحياة لدى الناس و من هنا كان التذمر.
  2. حالة الانقسام: فبغض النظر عن التفسيرات المختلفة لحالة الإنقسام و العوامل التي أدت إليها، و بغض النظر عن  من يتحمل المسؤولية عنها، و بغض النظر عن من المصيب و من المخطئ فيها، بغض النظر عن هذا كله  فإننا جميعاً و منذ وقوع الإنقسام و نحن نشعر أننا نمر في فترة استثنائية شاذة غير طبيعية مهما بدت جيدة لبعضنا و مهما حاولنا التعايش معها.  المعنى الذي أريد أن أقوله أن الحالة النفسية للمواطن الفلسطيني منذ وقع الانقسام في مساحتي الشعور و لا الشعور تسيطر عليها حالة من عدم الارتياح و عدم الاستقرار الداخلي. هذه النفسية تعاضدت مع ما وصفته في النقطة السابقة ووفرتا معاً أسباب أكبر للتذمر و الضيق و التململ.
  3. الفشل الجماعي في تحمل المسؤولية. قد يكون من الصعب تحميل المسؤولية لجهة بعينها او لفرد بعينه، إذ أنك ستجد عند كل طرف تفسيرات تبريرية تعفيه هو من المسؤولية و تلقى باللائمة على الآخرين، و ربما تجد كلامه مقنعاً أو فيه شيء من المنطلق على الأقل!  و لكني أعتقد أن المشكلة الرئيسية ليست في التيارات إذا ما تناولناها كلاً على حدة، و لكنها مشكلة في المجموع،  أي في التخطيط معاً و العمل معاً على تنوعنا و اختلافنا.  بمعنى آخر نحن فشلنا طوال سنوات كثيرة مضت في الاتفاق على خطة أو رؤية واحدة، و فشلنا كذلك في السماح لأي خطة أو رؤية مقترحة أن يتم تجريبها كاملة دون إحداث حالة من التضارب بين خطط متعددة متناقضة. هذه الحالة من  تعدد الخطط العاملة أدت إلى حالة تضارب و تخبط فشلت معها كل الخطط جملةً واحدة، و أدت في النهاية إلى شعور المواطن بالتيه و التخبط و الضياع.

هذه بعض الأسباب الجذرية لحالة التذمر الحالية باعتقادي، و القضايا الأخرى ما هي إلا أسباب فرعية أو ظاهرية من وجهة نظري.

و الآن ما هو الحل؟  لن أستطيع بمفردي أن أضع حلاً لهذه المشكلة المركبة المعقدة، و حتى لو تمكنت من وضع تصور مقترح فلن تكفي هذه التدوينة لعرضه، و لذلك سأكتفي بعرض مقدمات للحل. هذه المقدمات تمثل شروطاً لازمة لابد أن نحققها و نحن نخطو في طريقنا نحو الحل:

  1. الإعتراف بالفشل الجماعي: لابد أن نخرج من مربع المكابرة و من دائرة التبرير و من دوامة تبرئة الذات و اتهام الآخر، لابد أن نعترف أننا فشلنا في أن نعمل معاً، قد يكون كل فصيل نجح في أن يضع تصور مقنع له و لأفراده، و ربما يكون قد نجح في اتخاذ خطوات عملية إلى الأمام في ضوء هذا التصور، و قد يكون تصور كل فصيل صحيح و سليم -ولو نسبياً- بمفرده، و لكننا مع ذلك فشلنا في العمل معاً فكان الإخفاق من نصيب الجميع كما سبق و شرحت في الأسباب في الأعلى.  و عندما أقول الفشل الجماعي فإنني أجمع الجميع و نفسي و كل فرد فلسطيني،  و ذلك لأن كل واحد منا ساهم بشكل أو بآخر في هذا الفشل سواءً من خلال القيام بأعمال سلبية ساهمت في تسميم الأجواء و التمهيد للفشل، أو من خلال السكوت و التقاعس عن معاكسة السلب بإيجاب، و مواجهة الخطأ بنصيحة صريحة.
  2. إعادة تعريف المشكلة: إذ لا يمكن إيجاد علاج ناجع بدون تشخيص المشكلة تشخصياً سليماً.  فمن الخطأ مثلاً أن نسطح المشكلة بحيث نعتقد أنها بدأت مع هذه الحكومة أو تلك ، أو تقزيمها و حصرها في سوء إدارة الوزير الفلاني أو المدير العلاني. ما أراه من وجهة نظري أن ما نشهده حالياً ما هو إلا خطوات متقدمة في مسارات خاطئة سرنا بها منذ وقت طويل فوصلت بنا إلى حقل أشواك أو نهايات مسدودة. ما هو مطلوب منا كمقدمة للحل هو أن نمارس عملية عصف ذهني موسعة نقوم من خلالها بإعادة تعريف المشكلة بحيث نعود إلى بداياتها الأولى و جذورها العميقة و نتراجع إلى ما قبل الخطوة الأولى في المسار الخاطئ الذي سلكناه. هذا العصف الذهني هو واجب جماعي يحتاج إلى نقاش موسع و تناقح أفكار و آراء.
  3. تحديد المطالب: علينا أن نحول عبارات التذمر العامة الفضفاضة إلى مطالب واضحة عملية واقعية قابلة للتنفيذ. و الواقعية  هنا مطلوبة بشدة،   فعلينا أن ندرك مثلاً أن كثير من الظروف الاقتصادية و الأمنية و السياسية لن تتغير كثيراً بتغير حكومة و حلول حكومة جديدة، فالعوامل المسببة لهذا التردي الاقتصادي لها خلفيات و أسباب أبعد من ذلك. مطالبنا يجب أن تتمحور بالأساس حول أسباب الفشل كالمطالبة بصياغة استراتيجية وطنية موحدة للتعامل مع القضية الفلسطينية و إيجاد آليات عملية جامعة متفق عليها لتنفيذ هذه الاستراتيجية، و يتضمن هذا بشكل تلقائي إنهاء كل الأوضاع الشاذة كالانقسام السياسي و ما نتج عنه.
  4. رفض الحلول الترقيعية و السعي نحو خلق أجواء جديدة: فالأمر لم يعد يحتمل الترقيع مهما كانت الرقعة جميلة و براقة. لا يمكن إنهاء حالة التذمر إلا بخلق أجواء جديدة يشعر المواطن معها بتحول مفصلي كبير و تغير في المسارات و ليس مجرد تغيير من يتولى عجلة القيادة.
  5. استرداد الثقة بالنفس وعدم اليأس : كلامي هذا يجب أن لا يدفعنا إلى الشعور بخيبة الأمل، أو أن الفشل في جزئية العمل معاً  يعني أننا فشلنا فشلاً مطلقاً في كل شيء فهذا غير صحيح، فعلى الرغم من تضارب مسارات تحركنا إلا أننا و بفضل الله تمكنا من تناوش إنجازات من على جانبي الطريق تستحق أن نفتخر بها و أن نستعملها كزاد للتصحيح. 

هذه هي مساهمتي في محاولة فهم أبعاد الوضع الحالي، و قراءة المشهد المعقد، و التنبيه شبه المبكر على ما سيؤول إليه من نهايات إذا لم يسارع العقلاء بخطوات استدراكية واعية تعالج الجذور و تخلق بيئة جديدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق