هذا ما يطرحه و ينظر له عدد من المثقفين في الساحة العربية بقوة و كثافة هذه الأيام، لاسيما بعد نجاح ثورتي مصر و تونس و صعود التيارات الإسلامية بأجنحتها المختلفة كقوى بارزة على الساحة و ذات تأثير بالغ في توجهات الشارع. و الحقيقة أن الحُكم على صحة أو بطلان هذا الادعاء يحتاج إلى وضعه أولاً على طاولة التشريح و التفصيل، فـ"الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره" كما عند علماء المنطق.
و أود أن أجمل تحليلي في نقاط مختصرة:
أولاً: الكثير ممن يرددون هذا الطرح و يدَّعون صحته يرددون كذلك "الدين يفسد السياسة، و السياسة تفسد الدين"، و بالتالي هم علمانيون في غالبهم، يرون أن السياسة و الدين ضدان لا يجتمعان، و خطان متوازيان لا يتقاطعان، و يرون أن الدين ثابت في حين أن السياسة متغيرة، و لا يمكن أن يُدار المتغير بتوجيهات من الثابت. و عليه فإنهم يرون أن مجموع ما في الدين من قيم و أحكام و تعاليم لا تصلح من حيث المبدأ كمحددات لأي خطاب سياسي سواءً كان خطاباً استغلالياً أو حتى خطاباً تنموياً بريئاً من الاستغلال! و لهذا فإنني أعتقد أن النقاش مع أغلب أصحاب هذا الطرح لم يصل بعد مرحلة الحديث حول الاستغلال السيء للدين في السياسة، و إنما ربما نحتاج إلى مناقشتهم أولاً في فكرة أن الدين يحمل في طيات رسالته أسس مشروع حضاري متكامل قادر على سياسة شؤون الدنيا.
ثانياً: يفترض هذا الطرح أن الدين في حد ذاته لا يقدم أي حلول خاصة به لمشكلات المجتمع المتنوعة، و أن وجود الدين في الممارسة السياسية للتيارات الدينية يقتصر على الخطاب، أي استخدام الالفاظ الشرعية لإضفاء صبغة دينية على أطروحات و مشاريع سياسية صرفة ليست منطلقة أساساً من الدين. و هذا افتراض خاطئ بلا أدنى شك، أما الصواب من وجهة نظري فهو أن الدين لا يقف عند حدود العبادات والطقوس و الروحانيات كما يظنون، و إنما يقدم منظومة أخلاق رصينة تصون الفرد و المجتمع، و قانون أحوال اجتماعية تحمي الأسرة و تدعم منظومة الأخلاق، و نظام عقوبات قادر على الردع و الحد من الجريمة، و نظام اقتصادي قوي قوامه الحقيقة لا الخداع و العدل لا الظلم و القناعة لا الجشع، و نظام سياسي مرن يرسم الحدود العريضة التي تضمن العدل و إحقاق الحقوق ثم يترك للناس بعد ذلك حرية تنظيم العمل السياسي وفق مصالح الناس و متطلبات الزمان، كما أن الدين يقدم حلولاً عملية لمشكلات المجتمع كالزكاة لعلاج الفقر، و تحريم الربا لمجابهة الجشع، و الحدود العقابية الرادعة لمواجهة الجريمة و الرذيلة، و يجعل طلب العلم فريضة لعلاج الجهل، إلخ.
ثالثاً: يسوق أصحاب هذا الإدعاء مبرراً لادعائهم مفاده أن المجتمع في عمومه متدين و عاطفة الدين قوية و مؤثرة في نفوس أفراده، و استخدام لغة الدين في ساحة تنافس سياسي كهذه يعطي أفضلية للتيارات الدينية، إذ أن خطابها سيكون حتماً أكثر ملامسة لعواطف الناس بغض النظر عن حقيقة مضمونه السياسي. و الذي أراه أن هذا القول فيه توصيف صحيح للواقع (أي تنامي الصحوة الإسلامية) و لكن الاستنتاج المبني عليه خاطئ، إذ أننا لو سلمنا بأن الدين يرسي أسس متينة لمشروع حضاري تنموي متكامل كما ذكرنا في النقطة السابقة، و وضعنا هذه الحقيقة إلى جانب ملاحظة أن المجتمع بطبعه متدين، لاستنتجنا أن عرض المشروع الحضاري الديني على المجتمع هو الأنسب و الأليق و الأجدر له - أي للمجتمع (مع عدم حرمان المشاريع الأخرى من طرح نفسها بالطبع)، و حضور الخطاب الديني هنا سيكون طبيعي، إذ لا يمكن أن أحدث متدينين عن مشروع حضاري نابع من دينهم مستخدماً خطاباً ماركسياً او علمانياً أو ليبرالياً أو...
رابعاً: يتضمن هذا الطرح تشكيكاً ضمنياً في الوعي العام للمجتمع و قدرته على التمييز بين الخطاب الاستغلالي الخادع و بين الفكر "القويم"، و يرى أن سواداً كبيراً من الناس ينخدع بسهولة و ينساق وراء خطابات تلامس عواطفه لا عقله. و أنا أرى أن هذا لا يختلف عن قول من قال أن المجتمع غير مهيء للديموقراطية، و أخشى إذا ما وصل أحد أصحاب هذا الطرح إلى الحكم أن تكون هذه القناعة الفاسدة و هذا الشك في وعي المجتمع هو الراسم لمعالم سياسة الحريات في المستقبل، و هذا سيعيدنا خطوات للوراء بدل أن نتقدم نحو الحرية و الديموقراطية الحقة.
خامساً: مصطلح "الخطاب الديني" يحتاج إلى تحرير، إذ لا يخلو تنظير من يرفضون الخطاب الديني السياسي من تعميمات و خلط للأوراق، فهل الخطاب الذي يذمونه مقصور على ما نذمه جميعاً من تحويل الاجتهادات السياسية البشرية إلى أوامر و نواهي شرعية، كأن يقول أحدهم مثلاً: "إن جعل نظام الحكم في البلد رئاسياً هو واجب شرعي و حق ديني"، أم أن الذم ينسحب على كل تنظير أو دعوة للمنظومات الأخلاقية و القيمية و الاجتماعية و الاقتصادية و الفكرية للدين؟ هل إذا قال أحدهم مثلاً: "سوف أسعى إلى تشجيع السياحة الملتزمة أو الاقتصاد الشرعي أو التجارة الحلال" هل سيتعبر خطابه هذا استغلالاً للدين و تلاعباً بعواطف الناس؟ هذا هو الفيصل.
و الخلاصة: أنا بالتأكيد "ضد استغلال الدين في السياسة"، و لكني أخشى أن العديد ممن يثيرون قضية الخطاب الديني مؤخراً هم في الحقيقة "ضد وجود الدين في السياسة."
ملاحظة: لقد حرصت على تجنب التعميم في مقالي هذا، و لهذا تجدني أستخدم كلمات التبعيض في أكثر من موضع، إذ أنني أدرك ان هناك من يتناول هذه المسألة من باب الحرص على ترشيد و تطوير خطاب التيارات الدينية، و الاستدراك الغيور على ما قد يراه من وجهة نظره أخطاء في التطبيق أو الممارسة. و بالله التوفيق.
ملاحظة: لقد حرصت على تجنب التعميم في مقالي هذا، و لهذا تجدني أستخدم كلمات التبعيض في أكثر من موضع، إذ أنني أدرك ان هناك من يتناول هذه المسألة من باب الحرص على ترشيد و تطوير خطاب التيارات الدينية، و الاستدراك الغيور على ما قد يراه من وجهة نظره أخطاء في التطبيق أو الممارسة. و بالله التوفيق.