الأحد، 24 أبريل 2011

السياسة و استغلال الدين



"استخدام الخطاب الديني في العمل السياسي استغلال سيء للدين"

هذا ما يطرحه و ينظر له عدد من المثقفين في الساحة العربية بقوة و كثافة هذه الأيام، لاسيما بعد نجاح ثورتي مصر و تونس و صعود التيارات الإسلامية بأجنحتها المختلفة كقوى بارزة على الساحة و ذات تأثير بالغ في توجهات الشارع. و الحقيقة أن الحُكم على صحة أو بطلان هذا الادعاء يحتاج إلى وضعه أولاً على طاولة التشريح و التفصيل، فـ"الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره" كما عند علماء المنطق.

و أود أن أجمل تحليلي في نقاط مختصرة:

أولاً: الكثير ممن يرددون هذا الطرح و يدَّعون صحته يرددون كذلك "الدين يفسد السياسة، و السياسة تفسد الدين"، و بالتالي هم علمانيون في غالبهم، يرون أن السياسة و الدين ضدان لا يجتمعان، و خطان متوازيان لا يتقاطعان، و يرون أن الدين ثابت في حين أن السياسة متغيرة، و لا يمكن أن يُدار المتغير بتوجيهات من الثابت. و عليه فإنهم يرون أن مجموع ما في الدين من قيم و أحكام و تعاليم لا تصلح من حيث المبدأ كمحددات لأي خطاب سياسي سواءً كان خطاباً استغلالياً أو حتى خطاباً تنموياً بريئاً من الاستغلال! و لهذا فإنني أعتقد أن النقاش مع  أغلب أصحاب هذا الطرح لم يصل بعد مرحلة الحديث حول الاستغلال السيء للدين في السياسة، و إنما ربما نحتاج إلى مناقشتهم أولاً في فكرة أن الدين يحمل في طيات رسالته أسس مشروع حضاري متكامل قادر على سياسة شؤون الدنيا.

ثانياً: يفترض هذا  الطرح أن الدين في حد ذاته لا يقدم أي حلول خاصة به لمشكلات المجتمع المتنوعة، و أن وجود الدين في الممارسة السياسية للتيارات الدينية يقتصر على الخطاب، أي استخدام الالفاظ الشرعية لإضفاء صبغة دينية على أطروحات و مشاريع سياسية صرفة ليست منطلقة أساساً من الدين. و هذا افتراض خاطئ بلا أدنى شك، أما الصواب من وجهة نظري فهو أن الدين لا يقف عند حدود العبادات والطقوس و الروحانيات كما يظنون، و إنما يقدم منظومة أخلاق رصينة تصون الفرد و المجتمع، و قانون أحوال اجتماعية تحمي الأسرة و تدعم منظومة الأخلاق، و نظام عقوبات قادر على الردع و الحد من الجريمة، و نظام اقتصادي قوي قوامه الحقيقة لا الخداع و العدل لا الظلم و القناعة لا الجشع، و نظام سياسي مرن يرسم الحدود العريضة التي تضمن العدل و إحقاق الحقوق ثم يترك للناس بعد ذلك حرية تنظيم العمل السياسي وفق مصالح الناس و متطلبات الزمان، كما أن الدين  يقدم حلولاً عملية لمشكلات المجتمع كالزكاة لعلاج الفقر، و تحريم الربا لمجابهة الجشع، و الحدود العقابية الرادعة لمواجهة الجريمة و الرذيلة، و يجعل طلب العلم فريضة لعلاج الجهل، إلخ.

ثالثاً: يسوق أصحاب هذا الإدعاء مبرراً لادعائهم مفاده أن المجتمع في عمومه متدين و عاطفة الدين قوية و مؤثرة في نفوس أفراده، و استخدام لغة الدين في ساحة تنافس سياسي كهذه يعطي أفضلية للتيارات الدينية، إذ أن خطابها سيكون حتماً أكثر ملامسة لعواطف الناس بغض النظر عن حقيقة مضمونه السياسي. و الذي أراه أن هذا القول فيه توصيف صحيح للواقع (أي تنامي الصحوة الإسلامية) و لكن الاستنتاج المبني عليه خاطئ، إذ أننا لو سلمنا بأن الدين يرسي أسس متينة لمشروع حضاري تنموي متكامل كما ذكرنا في النقطة السابقة، و وضعنا هذه الحقيقة إلى جانب ملاحظة أن المجتمع بطبعه متدين، لاستنتجنا أن عرض المشروع الحضاري الديني على المجتمع هو الأنسب و الأليق و الأجدر له - أي للمجتمع (مع عدم حرمان المشاريع الأخرى من طرح نفسها بالطبع)، و حضور الخطاب الديني هنا سيكون طبيعي، إذ لا يمكن أن أحدث متدينين عن مشروع حضاري نابع من دينهم مستخدماً خطاباً ماركسياً او علمانياً أو ليبرالياً أو...

رابعاً: يتضمن هذا الطرح تشكيكاً ضمنياً في الوعي العام للمجتمع و قدرته على التمييز بين الخطاب الاستغلالي الخادع و بين الفكر "القويم"، و يرى أن سواداً كبيراً من الناس ينخدع بسهولة و ينساق وراء خطابات تلامس عواطفه لا عقله. و أنا أرى أن هذا لا يختلف عن قول من قال أن المجتمع غير مهيء للديموقراطية، و أخشى إذا ما وصل أحد أصحاب هذا الطرح إلى الحكم أن تكون هذه القناعة الفاسدة و هذا الشك في وعي المجتمع هو الراسم لمعالم سياسة الحريات في المستقبل، و هذا سيعيدنا خطوات للوراء بدل أن نتقدم نحو الحرية و الديموقراطية الحقة.

خامساً: مصطلح "الخطاب الديني" يحتاج إلى تحرير، إذ لا يخلو تنظير من يرفضون الخطاب الديني السياسي من تعميمات و خلط للأوراق، فهل الخطاب الذي يذمونه مقصور على ما نذمه جميعاً من تحويل الاجتهادات السياسية البشرية إلى أوامر و نواهي شرعية، كأن يقول أحدهم مثلاً: "إن جعل نظام الحكم في البلد رئاسياً هو واجب شرعي و حق ديني"، أم أن الذم ينسحب على كل تنظير أو دعوة للمنظومات الأخلاقية و القيمية و الاجتماعية و الاقتصادية و الفكرية للدين؟ هل إذا قال أحدهم مثلاً: "سوف أسعى إلى تشجيع السياحة الملتزمة أو الاقتصاد الشرعي أو التجارة الحلال" هل سيتعبر خطابه هذا استغلالاً للدين و تلاعباً بعواطف الناس؟ هذا هو الفيصل.

و الخلاصة: أنا بالتأكيد "ضد استغلال الدين في السياسة"، و لكني أخشى أن العديد ممن يثيرون قضية الخطاب الديني مؤخراً هم في الحقيقة "ضد وجود الدين في السياسة."


ملاحظة: لقد حرصت على تجنب التعميم في مقالي هذا، و لهذا تجدني أستخدم كلمات التبعيض في أكثر من موضع، إذ أنني أدرك ان هناك من يتناول هذه المسألة من باب الحرص على ترشيد و تطوير خطاب التيارات الدينية، و الاستدراك الغيور على ما قد يراه من وجهة نظره أخطاء في التطبيق أو الممارسة. و بالله التوفيق.

هناك 4 تعليقات:

  1. كلام جميل وبداية موفقة
    لي عودة إن شاء الله........

    ردحذف
  2. شكراً على مرورك يا محمد، بانتظار عودتك.

    ردحذف
  3. عزيزي أمجد أتفق معك بشكل كبير فيما تقول ولكن نحن أمر واقع وطالما أنك قررت أن تكون مشرط فعليك أن ترى الجرح بكل تفاصيله حتى تستطيع العلاج بشكل صحيح إن من جعل هؤلاء الذين يرفضون وجود الدين في السياسة من الأساس هم قادة بعض التيارات التي تدعي الإسلام من خلال خطابهم السياسي الضعيف والمتهالك والذي لا يحتوي على الفقه بقدر ما يحمل من قمع ونفي للآخر وهذا واضح جلي وأعتقد أننا اكتفينا منه.
    أما بالنسبة لمن يرفضون وجود الدين في السياسة فأعتقد أن جهدهم خاسر وهو مردود عليهم فكما قلت في وسط تدوينتك المجتمع متدين بطبعهفهو يفهم ما تقول ويربطه بدينه وتراثه وثقافته المتدينة لا إراديا فحتى أصحاب هذا المذهب وليقينهم بهذا الشيء يستخدمون عبارات واقتباسات من القرآن والسنة في خطاب جماهيرهم رغما عن إرادتهم فهم متؤثرون بذات الشيء.
    أمر أخير أود إضافته وهو نصيحة لكل التيارات التي ترغب بتطبيق تعاليم الدين في حياتنا: لا يجوز لكم أن تسموا أنفسكم تياراً إسلاميا فإن كنتم أنتم من تمثلون الإسلام فمن نكون نحن (بقية المجتمع) هل نصبح كفار قريش لا يمكن أن تسمي نفسك إسلامياً في مجتمع يعيش الإسلام حتى وإن كان هناك تقصير في بعض جوانب التطبيق.
    أعتقد أن خير دفاع عن فكرنا في تعزيز تعاليم الإسلام في السياسة والاقتصاد وغيره هو بتقديم نموذج عملي واقعي لا يدنس المقدس ولا يحاصر الواقع ويخنقه

    ردحذف
  4. أشكرك جزيلاً يا خالد على تشريفك لي بزيارة مدونتي، هذا فخر كبير لي و أشكرك على التعليق القيم و الجميل..

    أتفق معك فيما طرحت في جزئية قبول الآخر، و لكني أرى من زاوية نظري ان مشكلة التعصب للرأي و عدم قبول الآخر هي مشكلة ثقافية مجتمعية عامة ناتجة عن تفاعلات الأحداث و التجارب المختلفة التي مر بها الناس و غياب أجواء الديموقراطية و الحريات .. فأنا لا أراها مشكلة خاصة بالتيارات الدينية و لا بغيرها و لا هي نابعة من أيديولوجيات أو أفكار التيارات المختلفة ... والله أعلم ..

    أما قضية تسمية التيارات الإسلامية بهذا الاسم فمن وجهة نظري أنها مسألةاصطلاحية لا تعني تقسيم الناس إلى مسلم و كافر و لم يقل بهذا الأحد و لا أرى في الواقع ما يوافقه ...

    أنا أراها كما نسمي تيارات أخرى بالتيارات الوطنية أو التنموية، إلخ ... لا يمكن أن تعني هذه التسمية ان بقية التيارات خائنة غير وطنية ، أو رجعية متخلفة غير تنموية... والله أعلم

    ردحذف