الثلاثاء، 6 ديسمبر 2011

تطبيق الشريعة شبهات و ردود: الإسلام و الحريات

الشبهة: التدين قضية شخصية  بين العبد و ربه و ليس من حق الدولة أو الحاكم التدخل فيها لفرضها أو منعها.

الرد:

قضية الحريات هي من أكثر القضايا التي يثيرها المُخَوِفون و المتخوفون من تطبيق الشريعة. فهم يرون و يروجون أن وجود إسلامين في الحكم سيفتح ملفات كلها تمس الحريات الشخصية للأفراد مثل الحجاب و الاختلاط و عمل المرأة و ما شابهها من الأمور.

و خلاصة ما ينادي به المتخوفون و الحريصون على صيانة الحريات هو ترك كل ما يتعلق بالدين بعيداً عن سلطان الدولة و عن تدخلها، و يقولون أن التدين و الالتزام بأحكام الشرع مسألة شخصية، و ليس من حق من يصل إلى الحكم حتى و لو جاء بالأغلبية أن يتدخل في قيم المجتمع أو ممارساته الاختيارية.

في اعتقادي أن هذا الكلام ليس صحيحاً على إطلاقه، بل هو بحاجة إلى تفصيل حتى تتضح المسألة و تزول الشبهة. و اسمحوا لي أن أقرر بعض الحقائق أولاً:

1- الحقيقة الأولى:  حريات الأفراد غير مطلقة
اتفقت كل التجمعات البشرية على مر العصور و حتى لحظتنا الحالية على أن حريات الأفراد ليست مطلقة، و كل دول و حكومات العالم قائمة أساسأ على هذا المبدأ، فالوظيفة الأساسية للحكومات هي تطبيق "القانون"، و القانون ما هو إلا مجموعة من النصوص التي تقيد و تضبط حريات الأفراد و تنظمها.


فالقانون الذي يمنع السيارات من السير في الاتجاهين في شارع ذي اتجاه واحد يقيد حرية السائقين، و القانون الذي يقضي بملاحقة و سجن متعاطي المخدرات يقيد من حرية من يحب مغيبات العقل أو أدمنها، و قوانين التنظيم الذي تحدد ارتفاع المباني في بعض الأحياء تقيد من حرية صاحب الأرض الذي يرغب في التطاول في بنيانه ...  إلى آخره من القوانين.   


و بالتالي فإن وظيفة أي حكومة في العالم هي تقنين و تنظيم و ضبط ممارسة الناس لحرياتهم!


2- الحقيقة الثانية: القيم و الأعراف تقيد الحريات
على الرغم من أن كل التجمعات البشرية في العالم و كل الدول بلا استثناء اتفقت على مبدأ عدم إطلاق الحريات، إلا أنها اختلفت فيما بينها اختلافاً كبيراً فيما ينبغي تقييده و ما ينبغي إطلاقه من الحريات، و لهذا تجد أن لكل دولة من دول العالم، بل أحياناً لكل محافظة أو مقاطعة من مقاطعات بعض الدول قانوناً مختلفاً.  و يرجع اختلاف القوانين إلى حقيقة مهمة، و هي أن القوانين تأتي انعكاساً لمجموع القيم و الأعراف و الموروثات الثقافية للشعوب.  


كل مجتمع من المجتمعات يتوافق أفراده على مجموعة من القيم و الأعراف، ثم تتم ترجمتها في صورة قوانين تقيد حريات الناس حتى يصان المجتمع بمنع خروج أفراده عن حدود تلك القيم.  


و لا توجد حدود واحدة ثابتة للحريات متفق عليها في كل العالم، و إنما تتفاوت البلدان فيما بينها في ذلك تفاوتاً كبيراً، و لذلك :


*  تجد مثلاً أن الدعارة (البغاء) قانونية في أغلب أوروبا و لكنها ممنوعة بنص القانون في أمريكا و كندا و الصين. (1)
* و تجد أن زواج الأمثال مسموح في قوانين بعض البلدان و ممنوع في بلدان أخرى. (2)
* و تجد أن تداول المواد الإباحية عبر الإنترنت غير مقيد في دول كثيرة من العالم، إلا أن الصين مثلاً تقوم بفلترة الإنترنت و تنقيتها و حجب المواقع الإبحاية، و تعاقب من يتعمد زيارتها. (3)
* و تجد أن قانون بعض الدول الأوروبية مثل أسبانيا و إيطاليا يجيز أن تعري المرأة صدرها في الأماكن العامة كالشواطئ، في حين أن هذا ممنوعاً في دول مثل أغلب ولايات أمريكا و كندا.
* و تجد أن قتح صلات القمار ممنوع في "اسرائيل" لأسباب دينية، في حين أن لاس فيجاس في أمريكا من عواصم القمار في العالم. (4)
* و تجد في  "اسرائيل" كذلك تضييقاً على تربية و تداول لحم الخنزير، و جدلاً كبيراً حول المسألة تمت مناقشته عدة مرات في الكنيست! و السبب في ذلك أن الخنزير محرم في الديانة اليهودية! (5)
* و تجد أن بلداً مثل الهند يمنع قانون معظم ولاياته ذبح الأبقار لأسباب "اعتقادية"، و قد تأكدت من هذه المعلومة بنفسي من أحد زملائي الهنود.(6)
* و قد رأيت بأم عيني يافطات منع شرب الخمر (بالقانون) في المتنزه المجاور للنهر الذي يمر في مدينة ديترويت، و في جزيرة بيلي الواقعة على الحدود الأمريكية الكندية (و كلاهما في ولاية ميشيجان الأمريكية)،  و على بعض شواطئ مدينة سانتاكروز المطلة على ساحل المحيط الهادي في ولاية كاليفورنيا الأمريكية.
* و غيرها الكثير ...

الذي أردته من خلال هذه الأمثلة هو أن أبين كيف أن حكومات العالم كلها تمارس واجبها في تقييد الحريات باستخدام القانون و انطلاقاً من معتقدات دينية أو قيم مجتمعية أو ثقافات متوارثة.  و لا أظن أن أحداً يقول أن هذا تدخل سافر من الدولة أو أنه ليس لها بحق.


كل الدول التي أوردتها في الأمثلة السابقة هي دول ديموقراطية و تقوم على تداول السلطة، و يقوم بإدارة الدولة الأغلبية التي ينتخبها الشعب، و تمارس صلاحياتها في سن التشريعات و القوانين التي كلها تمس الحريات بطبيعة الحال.  و في البرامج الانتخابية للأحزاب كثيراً ما تجد بنوداً تتعلق برغبة الحزب المتنافس على السلطة في تقييد إحدى الحريات أو إطلاق حريات أخرى. فعلى سبيل المثال في الانتخابات الأمريكية الأخيرة كان برنامج الحزب الجمهوري المحافظ يتضمن بنوداً تنادي بسن تشريعات تحظر الإجهاض و تمنع زواج المثليين. (7)

3- الحقيقة الثالثة: الإسلام عبادات و معاملات
ليس صحيحاً بالمرة أن الإسلام دين عبادات فقط خاصة بين العبد و ربه، بل هو دين معاملات أيضاً ينظم علاقات الناس بعضهم ببعض و فيه نظام ضابط لتفاصيل كثيرة في حياة الناس، و لهذا تجد أن أكثر كتب الفقه تنقسم إلى بابين رئيسيين و هما باب العبادات (كالطهارة و الصلاة و الصيام .. إلخ)  و باب المعاملات (كالبيع و الشراء و الصناعات ووجوه الكسب و الولاء و البراء ...  غيرها)، و أظن أن الجميع يعرف أن الفقه الإسلامي المستنبط من مصادر التشريع (القرآن و السنة) قد تضمن إلى جانب العبادات قضايا كثيرة مثل:
- فقه البيع و الشراء...  فحرم بيع الغرر مثلاً
- و فقه المعاملات المالية ... و يندرج تحتها تحريم الربا
- و فقه الأحوال الشخصية كالزواج و الطلاق و المواريث و غيرها من الأمور المعروفة
- و فقه غير المسلمين
- و فقه العلاقات الدولية 
- و فقه الحاكم و المحكوم 
- و غيرها الكثير ...


و كل هذه الأمور وردت  في القرآن و السنة في صورة أوامر و نواهي  (أي تشريعات و قوانين)


و عليه فبإمكاننا أن نقول أن الفقه الإسلامي قد تدخل في أغلب جوانب الحياة،  و لكن دعونا للتبسيط نعود إلى التصنيف الأصلي فنقول أن كل الأوامر و النواهي جاءت إما في شئون عبادية أو في شئون معاملاتية أو في شئون تحمل الوجهين معاً.


و من أمثلة الأمور التعبدية المحضة الصيام و المداومة على الصلاة و الحج .. إلخ  من العبادات التي تقتصر فيها العلاقة على ما هو بين العبد و ربه (و إن كان لها انعكاساً أخلاقياً على سلوك الإنسان في المجتمع) ، و هذا النوع من العبادات اختص الله بمراقبته و محاسبة المقصر فيه.


أما من أمثلة شئون المعاملات المحضة فمسألة البيوع مثلاً، فالبيع و الشراء ما هما إلا أمثلة علاقات تبادلية تجري بين الناس.


و من أمثلة الشئون التي يتجلى فيها كلا الوجهين من عبادة و معاملة: الزكاة، فهي عبادة للمتزكي، و هي في ذات الوقت حق للفقير.


و النوعين الأخيرين يقعان في حدود واجبات الدولة و صلاحيات تدخلها، و ذلك لتعلقهما بشئون المجتمع والعلاقات المتبادلة بين أفراده.


الحقيقة الرابعة: الالتزام بأحكام الشريعة واجب إلزامي و ليس اختيار
من القواعد الأصولية الثابتة في الفقه الإسلامي أن كل أمر أو نهي ورد في القرآن و السنة الأصل فيه الوجوب و الإلزام للفرد و "للمجتمع" المسلم، إلا ما وردت قرينة صحيحة صريحة في الكتاب أو السنة تنقله من الوجوب إلى معنىً آخر.

و بالتالي فإن كل ما ثبت وجوبه فهو ملزم للمسلمين، و لا مجال لمؤمن أن تكون له الخيرة فيما أوجبه الله :  "
 وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" - (الأحزاب: 36)

الحقيقة الخامسة: الشريعة أنزلت ليحتكم الناس إليها
* يقول الله تعالي: "و من لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الفاسقون" - (المائدة: 47).

* و يقول تعالي : "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون" (المائدة: 49)


* و يقول تعالي: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما" (النساء: 105)

* و يقول تعالي: "فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت و يسلموا تسليماً" (النساء: 65)

* و يقول تعالي: " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منهم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون "(البقرة : 85) .

 هذه الآيات و غيرها تتجلى فيها بوضوح تام ثلاثة حقائق مهمة:

 الحقيقة الأولى هي أن الله عز و جل قد أنزل للناس شريعة ليتحاكموا إليها فيما بينهم في معاملاتهم و علاقاتهم و أنه لم يترك الأمر لاختياراتهم و أهوائهم.  و الحقيقة الثانية هي أن من واجب كل مؤمن أن يلتزم بكل ما جاء في هذه الشريعة. و الحقيقة الثالثة أن من واجب الحاكم أن يحكم الناس وفق هذه الشريعة.

الحقيقة السادسة: مساحات الحرية في الإسلامة واسعة
في الإسلام الأصل في الأمور الحل و الإباحة، و التحريم استثناء، وما هو مقطوع بحرمته في الإسلام قليل و محصور جداً و أغلبه مما لا يختلف عليه شخصان كلاهما عاقل!  فمثلاً:


* السرقة و القتل و القذف و الحرابة كلها أمور أجمع العالم بأسره على رفضها.
* الربا يشاهد العالم في كل يوم ضرره و خطره
* الخمر و مضيعات العقل كالمخدرات أجمع العالم كله على خبثها
* الزنا أجمعت الفطر السليمة كلها على النفور منه 
* التحرش و إيذاء النساء أجمعت قوانين الأرض على تجريمه


و عليه فالحريات التي يقيدها الإسلام ليست مبتدعة أو غريبة عن فطر البشر و لا عن قوانين الدنيا ... و ما جاءت أوامر الشريعة لتقيد حرية الفرد إلا لتحمي و تصون المجتمع.


الحقيقة السابعة: بين التشريع و التطبيق
هناك فرق بين التشريع و بين التطبيق...  فالتشريع تم و ثبت و لا مجال لتغييره  "اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي، و رضيت لكم الإسلام دينا" (المائدة: 3).  و باتمام الشريعة فهي تصبح ملزمة و لا مجال لتجاوزها.


أما التطبيق فيقصد به بذل كل الوسع لتطبيق أحكام الشريعة و الالتزام بها على مستوى الفرد و على مستوى المجتمع... و هذا واجب الفرد وواجب الحكومة معاً.


و لكن من روعة الإسلام أنه دينٌ واقعي و منطقي،  فالإسلام يراعي أن العجز عن تطبيق بعض أحكام الشريعة وارد، و هنا جاءت بعض المنافذ لتسعف الإنسان و المجتمع من الوقوع في الحرج عند العجز... و لكنها منافذ مضبوطة تقود إليها الحاجة و الضرورة و ليس الهوى و الرأي.


و من هذه المنافذ حد الاستطاعة "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" (البقرة: 286)،  "فاتقوا الله ما استطعتم" (التغابن: 16)، و من هذه المنافذ أيضاً  القاعدة الفقهية : الضرورات تبيح المحظورات، و منها القاعدة الأخرى: "دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة"


الخلاصة
* الأصل في أي بلد إسلامي يريد أن يعبد الله حق عبادته أن أحكام الشريعة هي مرجعية ضابطة للقوانين، ولا يجوز للدولة أن تسن تشريعات تخالف أحكام الشريعة الثابتة و المتفق عليها،  أما أي قانون من شئون الدنيا لا يخالف نصوص الشريعة الثابتة المتفق عليها فهو جائز بل و مرحب به في الإسلام لقول النبي صلى الله عليه و سلم :"أنتم أعلم بشئون دنياكم".


* اختيار الشعوب الإسلامية لقوانين و تشريعات مستمدة من الشريعة تتقيد  في ضوئها بعض حريات الناس التي تضر و تؤذي عموم المجتمع ليس بدعة بل هو موجود في كل العالم و هو أمر بدهي و لا يتعارض مطلقاً مع صيانة الحريات.


* من واجب  الحاكم في مجتمع إسلامي أن يسعى قدر استطاعته و بقدر طاقة تحمل و تقبل المجتمع إلى تطبيق أحكام الشريعة في الشؤون العامة ( أي ما يمس حقوق المجتمع، و ليس العبادات الشخصية المحضة كالصيام مثلاً) و لو بالتدريج.


* المسلم الساعي إلى تطبيق الشريعة بعد أن غابت من حياة الناس دهراً طويلاً  إذا ما كان لديه الفهم و العقل سيدرك الفرق بين التشريع و التطبيق و يفقه  أن الشروع في تطبيق أحكام الشريعة كفرض الحجاب مثلاً أو مجابهة بعض المحرمات المتفشية في المجتمع قد يفوق الطاقة و الوسع و ربما أدى إلى مفسدة أعظم، كما قال عمر بن عبد العزيز في أول حكمه "إنى أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه جملة ويكون من ذا فتنة" (٨) (٩)(١٠)



(1) دعارة حسب البلد: وكيبيديا الموسوعة الحرة
(2) الزواج المثلي: ويكيبيديا الموسوعة الحرة
(3) الصين تحجب المواقع الإباحية: الجزيرة
(4) القمار في الديانات: ويكيبيديا
(5) الخنزير: ويكيبيديا
(6) ذبح البقر في الهند: ويكيبيديا
(7) الإجهاض و الزواج في برنامج الحزب الجمهوري: ويكيبيديا
(٨) أورده الشاطبي في الموافقات .. ثم قال معقلاً: (وهذا معنى صحيح معتبر فى الاستقراء العادى)
(٩) انظر كدلك في كتاب "فتاوى معاصرة" ليوسف القرضاوي
(١٠) أنظر إلى كتاب "التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية "  للدكتور د. محمد عبد الغفار الشريف

شكر: أتوجه بالشكر إلى الأخ خالد لمساعدته لي قي تنقيح التدوينة، فجزاه الله كل خير.

هناك 3 تعليقات:

  1. جزاك الله خيراً وبارك فيكم
    اكثر من رائعة.

    ردحذف
  2. مشا الله تبارك الاله
    بارك الله فيكما ووفقكما للخير دوما
    تحياتي

    ردحذف
  3. اخي الكريم ..

    مقال أكثر من رائع .. بالنسبة للإسلام فهو لم يأتي بأمور يصعب تطبيقها او حتى الاندماج فيها .. كما انه لا يقيد الحرية بتاتا .. فكل بلد لها قوانينها وتشريعاتها وكما قلت فإن حرية الفرد ليست مطلقة ولا في أي مكان في العالم .. والاصل في الاسلام الإباحة وليس المنع .. وقد جاء موافقا لكل العصور والأزمنة لانه مرن ومتجدد .. ولا خوف من حكم الاسلاميين بما انزل الله .. ولكن المشكلة ان البعض يعاني من عقدة الاسلامفوبيا .. كما ان الملحدين يحاولون تشويه الدين الاسلامي وتخويف الناس منه ومن تطبيقه ..
    وفي النهاية نحن بلد مسلمة وتطبيق الشريعة الاسلامية هو المفروض ..
    بارك الله فيك على هذا الطرح القيم وجعله في ميزان حسناتك ..

    ردحذف